مدخل إلى فهم فكر الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي...
أنا أفكّر إذن أنا موجود TV أنا أفكّر إذن أنا موجود TV
12.8K subscribers
36,949 views
1K

 Published On May 13, 2021

مدخل إلى فهم فكر الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي...

يقول في كتابه ترجمان الأشواق؛

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي .. إذا لم يكن ديني إلى دينه داني..
لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ .. فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ..
ِوبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ .. وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ .. ركـائـبهُ ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني..
لنا أُسْوَة ٌ في بِشْرِ هندٍ وأُخْتِهَا... وقيسٍ وليلى، ثمَّ مي وغيلانِ...

هو محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي، المعروف بمحيي الدين إبن عربي، له عدة القاب أهمها الشيخ الأكبر، والكبريت الأحمر، ورئيس المكاشفين، والبحر الزاخر، وبحر الحقائق، وإمام المحققين، وسلطان العارفين، وابن أفلاطون، وتلميذ الخضر.
كتب ابن عربي أكثر من 800 كتاب ورسالة، لكن لم يبق منها سوى 100 مؤلف من أهمّها؛ كتاب الفتوحات المكية، المُكَوّن من 37 مجلّد و560 باب، وكتاب فصوص الحكم، و ديوان ترجمان الاشواق، وكتاب شجرة الكون، وكتاب اليقين...
ولد محيي الدين إبن عربي في مدينة مُرسية في الأندلس في 17 أو 27 من شهر رمضان سنة 560 هـجرية الموافق للسابع والعشرين من يوليو سنة 1165 ميلادية. تنتمي أسرته إلى قبيلة طيء العربية التي ينحدر منها حاتم الطائي، العربي المسيحي، وهو من أشهر كرماء العرب.
بدأ محيي الدين بن عربي يتحسس طريقه نحو العالم الروحاني منذ نعومة أظفاره، ينقل لنا المستشرق الفرنسي هنري كوربان في كتابه "الخيال الخلاّق في تصوّف ابن عربي" قصة مرض ابن عربي كما رواها هذا الأخير بنفسه فيقول هنري كوربان :«في هذه الفترة بالتحديد بدَت على ابن عربي علامات القدرة الاستشراقيّة. وقد ألمَّ به المرض وأدخلته الحمّى في حالة سبات وفتور عميقين. وخاله أهله ميتاً، فيما كان هو في عالمِه الباطني يرى نفسه محاطاً بمجموعة من الشخصيات الخطيرة ذات المظهر الجهنمي. لكن، ظهر فجأة شخص ذو جمال رباني مضمخ بعطر عذب الرائحة فقهر بقوته الجبارة الكائنات الشيطانية. فسأله: من أنت؟، فأجاب: أنا سورة (يس). والحقيقة أن أباه المسكين القلحق على حياة ابنه كان يتلو سورة (يس) بتلاوة خاصة بمن أتتهم سكرات الموت....» ويعتبر هنري كوربان أن ذلك كان أول دخول لابن عربي في اتصال مباشر بعالم المثال. سورة (يس) سوف يجعلها في ما بعد محيي الدين بن عربي "قلب كتاب الله"...
كانت الولادة الروحية لمحيي الدين بن عربي مؤنثة، لذلك سوف نرى ان للمرأة خاصة وللأنثى عموما مكانة مركزية في مشروعه الفكري. تتلمذ ابن عربي عندما كان صبيا على يد امرأةً من أشهر العارفات بإشبيلية، وهي فاطمة بنت ابن المثنى القرطبي؛ يقول فى كتابه الفتوحات المكيّة متحدّثا عنها :
" وخدمت أنا بنفسي امرأة من المحبات العارفات بإشبيلية يقال لها فاطمة بنت ابن المثنى القرطبي، خدمتها سنين، وهي تزيد في وقت خدمتي إياها على خمس وتسعين سنة، وكنت أستحي أن أنظر إلى وجهها وهي في هذا السن من حمرة خديها وحسن نعمتها وجمالها، تحسبها بنت أربع عشرة سنة من نعمتها ولطافتها، وكان لها حال مع الله، وكانت تؤثرني على كل من يخدمها من أمثالي، وتقول ما رأيت مثل فلان، إذا دخل علي دخل بكله لا يترك منه خارجا عني شيئا، وإذا خرج من عندي خرج بكله لا يترك عندي منه شيئا. ويضيف ابن عربي "فما زلت أخدمها بنفسي، وبنيت لها بيتا من قصب بيدي على قدر قامتها فما زالت فيه حتى درجت، وكانت تقول لي أنا أمك الإلهية ونور هي أمك الترابية(نور هي والدة ابن عربي) وإذا جاءت والدتي إلى زيارتها تقول لها يا نور؛ هذا ولدي وهو أبوك فبريه ولا تعقيه."
ابن عربي، رغم انه تتلمذ على يد رجال عارفين آخرين، منهم الشيخ أبو العباس العُرَيْني والشيخ يوسف الكرمي، والشيخ التونسي عبد العزيز المهدوي الذي خصّه برسالة "روح القدس في مناصحة النّفس" لكنّه لم يعترف لأي رجل من هؤلاء العارفين بالأبوّة الروحية، وحدها فاطمة بنت ابن المثنى القرطبي اعتبرها أما روحيّة له.
محيي الدين بن عربي سيقرّ مبكّرا بالأهلية الروحية للمرأة، وحقّها في مراتب الولاية التي كانت حكرا على الذكور.
كرامات هذا المتصوّف اليافع في بلاد الأندلس سوف تصل إلى مسامع فيلسوف قرطبة أبي الوليد بن رشد، الذي سيطلب من والد محيي الدين بن عربي الذي كان صديقا له أن يلتقي بابنه؛
يتحدث ابن العربي عن هذا اللقاء في كتابه الفتوحات المكية فيقول: "دخلت يوما بقرطبة على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمعه، وبلغه ما فتح الله علي في خلوتي... وأنا صبي ما بقل وجهي ولا طَرّ شاربي. فعندما دخلت عليه قام من مكانه إليّ محبة وإعظاما، فعانقني وقال لي نعم، فقلت له نعم. فزاد فرحه بي لفهمي عنه، ثم إني استشعرت بما أفرحه من ذلك، فقلت له: لا؛ فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي؟ هل هو ما أعطاه لنا النظر؟ قلت له: نعم ولا، وبين نعم ولا، تطير الأرواح من موادها، والأعناق من أجسادها. فاصفرّ لونه، واخذه الأَفْكل، وقعد يحوقل، وما عرف ما أشرت به إليه، وهو عين المسألة التي ذكرها هذا القطب الإمام، أعني مُداوي الكُلوم."
اللقاء بين الرجلين هو في الحقيقة لقاء بين مدرستين متناظرتين، مدرسة النظر والعقل والتي يمثلها شارح ارسطو الأكبر ابن رشد ومدرسة الإشراق التي يمثلها محيي الدين بن عربي، المستشرق الإسباني الشهير أسين بالاثيوس صاحب كتاب "ابن عربي، حياته ومذهبه"، يُعيد أصول فلسفة الإشراق عند ابن عربي إلى الفيلسوف الأندلسي ابن مسرّة الجبلي الذي ولد سنة 883 ميلادية وتوفي سنة 913 ميلادية ويعتبره ابن عربي نفسه «من أخير أهل الطريقة»، الفكر العربي الإسلامي وقتئذ كان بين قطبين معرفيين؛ القطب الأرسطي المشّائي واهم رموزه ابن رشد والقطب الإشراقي الأفلاطوني وخاصة الأفلوطيني منه نسبة إلى الفيلسوف اليوناني أفلوطين وأهم رموزه ابن سينا والكندي والفرابي وابن مسرة الجبلي وابن عربي والسهروردي...

*نجيب البكوشي باحث وكاتب تونسي.

show more

Share/Embed